مقالات

الصحة والبيئة والغذاء: كيف نبني مستقبلا مستداما للجميع؟

الصحة والبيئة والغذاء: كيف نبني مستقبلا مستداما للجميع؟

كتبت: د\ مريم جمال جريس
متابعة وإشراف: أ.د/ وفاء العروسي

       تمثل الصحة العامة حجر الأساس لرفاهية المجتمعات واستدامة التنمية، حيث ترتبط ارتباطا وثيقا بالعوامل البيئية والتغيرات المناخية. ومع تفاقم الأزمات البيئية، تزداد المخاطر الصحية، مما يستدعي تبني استراتيجيات شاملة لضمان بيئة آمنة وصحية. في ظل هذه التحديات، يصبح تحقيق الأمن الغذائي أداة حيوية لتعزيز الصحة العامة، حيث يتأثر توافر الغذاء وجودته بالتغيرات البيئية التي نشهدها اليوم.

يؤدي تغير المناخ، مثل ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول الأمطار ، إلى انتشار الأمراض المعدية مثل الملاريا وحمى الضنك، كما يفاقم التلوث البيئي أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب والأوعية الدموية. بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع مستوى سطح البحر والتغيرات في موارد المياه العذبة يؤديان إلى تفاقم سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي، ما يخلق بيئة مثالية لانتشار الأمراض المعوية وتلوث الأغذية. هذه التحديات لا تهدد الأفراد فحسب، بل تثقل كاهل الأنظمة الصحية وتؤثر على جودة الحياة بشكل عام.

   يزيد التلوث البيئي، الناتج عن الانبعاثات الصناعية واستخدام الوقود الأحفوري، من انتشار الأمراض المزمنة، بينما يؤدي تلوث المياه والتربة إلى تفاقم المشكلات الصحية عبر انتقال الملوثات الضارة إلى السلسلة الغذائية. فالمحاصيل الزراعية التي تمتص المبيدات والمعادن الثقيلة تصبح مصدرا للخطر عند استهلاكها، مما يعمق أزمة الأمن الغذائي ويهدد الصحة العامة. ومع تفاقم التغيرات المناخية، تتراجع إنتاجية المحاصيل بسبب الجفاف والفيضانات، مما يرفع معدلات سوء التغذية ونقص العناصر الغذائية الأساسية. لذا، فإن تبني ممارسات زراعية مستدامة، مثل الزراعة الرأسية والزراعة المائية، والتوسع في أنظمة الري الذكي، بات ضروريا لضمان استدامة الإنتاج الغذائي. كما أن تحسين أنظمة التخزين والتوزيع، والحد من الهدر الغذائي عبر حلول مبتكرة، يعزز من استقرار النظم الغذائية، ويضمن توفير غذاء صحي وآمن لجميع أفراد المجتمع.

   وفي ظل هذه التحديات، يصبح ترابط المياه والغذاء والطاقة أكثر وضوحا وأهمية، حيث يشكل توازن هذه الموارد الثلاثة مفتاحا لضمان الأمن الغذائي والصحي. فكل قطرة ماء تستخدم في الري، وكل وحدة طاقة تستهلك في الإنتاج الزراعي، تؤثر بشكل مباشر على وفرة الغذاء وجودته. ومع تزايد الضغط على الموارد الطبيعية بفعل التغيرات المناخية والنمو السكاني، يصبح تحسين كفاءة استخدام المياه، والتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة، وتبني تقنيات زراعية مبتكرة أمرا لا غنى عنه. فالممارسات المستدامة، مثل إعادة استخدام المياه المعالجة في الزراعة، والتوسع في أنظمة الري الذكي، والاعتماد على الطاقة المتجددة، لا تحافظ فقط على البيئة، بل تساهم في توفير غذاء صحي، وتعزز الأمن المائي، وتدعم الاستقرار الاقتصادي. فالاستثمار في هذا الترابط ليس رفاهية، بل ضرورة ملحة لبناء مستقبل أكثر مرونة واستدامة للأجيال القادمة.

تمثل التنمية المستدامة المفتاح لبناء مستقبل أكثر ازدهارا وصحة، حيث يحقق التوازن بين استغلال الموارد الطبيعية والحفاظ عليها فوائد عديدة، من تقليل الانبعاثات وتحسين جودة الهواء والمياه إلى ضمان إنتاج غذاء صحي ومستدام. ويعد تبني نماذج الاقتصاد الدائري، والحد من الهدر الغذائي، والاستثمار في التقنيات الزراعية المتطورة، خطوات ضرورية نحو مستقبل أكثر استدامة. لكن المسؤولية لا تقع على الحكومات وحدها، بل تشمل الأفراد أيضا، من خلال تقليل استهلاك البلاستيك، وتشجيع إعادة التدوير، واعتماد أنماط غذائية مستدامة. فتعزيز الوعي البيئي والمشاركة في المبادرات المجتمعية يسهم في إحداث تغيير إيجابي دائم، ينعكس على جودة الحياة ويضمن بيئة أكثر صحة للأجيال القادمة.

   و في مصر، يشكل تحقيق الاستدامة حجر الأساس لمسيرة التنمية، حيث تضع رؤية مصر 2030 والاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050 خارطة طريق لتعزيز الأمن الغذائي والصحة العامة. وتسعى الدولة إلى مواجهة تحديات التغير المناخي من خلال مشروعات تحلية المياه، والتوسع في الطاقة المتجددة، وتبني تقنيات زراعية مبتكرة لمكافحة التصحر وقلة المياه. كما تسهم المبادرات الوطنية، مثل 100 مليون صحة، اتحضر للأخضر والمشروعات الخضراء الذكية، في تسريع التحول نحو اقتصاد مستدام، مما ينعكس إيجابيا على جودة الحياة ويؤسس لمستقبل أكثر أمانا واستقرارا للأجيال القادمة.

“لم يعد التغيير خيارا، بل أصبح ضرورة ملحة لمستقبلنا جميعا. يفرض الواقع البيئي والمناخي تحديات متزايدة تتطلب استجابة متكاملة تعزز الصحة العامة، وتضمن الأمن الغذائي، وتحمي الموارد الطبيعية. وهذا لا يتحقق إلا من خلال استثمار الأبحاث العلمية، وتطوير سياسات بيئية وصحية شاملة، وتعزيز السلوكيات المستدامة، مما يمهد الطريق لبناء مجتمعات قادرة على التكيف مع التغيرات البيئية وتحقيق رفاهية الأجيال القادمة. فلا يمكن فصل الصحة العامة عن الأمن الغذائي وحماية البيئة، حيث يؤدي تحسين أحدها إلى تعزيز الآخر، مما يضمن مستقبلًا أكثر صحة واستدامة للجميع.”

“صحة مستدامة، بيئة نظيفة، غذاء آمن… معًا نصنع مستقبلا أخضر!”

تحياتى و تقديري….

د\ مريم جمال جريس

أخصائية صحة عامة

باحثة و ناشطة بيئية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى