غرائب جنوب سيناء: أرض العجائب التي لا تنتهي

غرائب جنوب سيناء: أرض العجائب التي لا تنتهي
كتبت: فاطمه ابو النصير
جنوب سيناء ليست مجرّد قطعة من الأرض، بل هي متحفٌ مفتوح للدهشة، وسِجلّ حيّ للأساطير والوقائع معًا. بين جبالها الشاهقة، ووديانها الهادئة، وسكونها العميق، تختبئ أسرارٌ لا تُفسَّر بالعقل، وتُروى كأنها من حكايات الأولين. إنها الأرض التي تحتفظ بروح التاريخ، وجلال النبوّة، وأثر الخطى التي مرّت، والآهات التي سكنت في صخورها.
—
وادي الجِيبَل في سانت كاترين: حيث الجبل يداوي القلوب
بين ثنايا جبال سانت كاترين، يتوارى وادٍ يعرفه أهل البادية بـ”وادي الجِيبَل” أو “وادي الشفاء”، لا تراه العيون العجلى، لكن مَن يصل إليه لا ينساه. هناك، يتدثّر الزائرون ببطاطين صوف سميكة من شدة البرودة، حتى في عزّ الصيف، وكأن الجبل ينتزع من أرواحهم كل تعب، لا من أجسادهم فقط.
في هذا المكان العجيب، لا شيء يحدث بصوت، لكن كل شيء يُحسّ. جلسات صمت طويلة، تأمّل في الأفق، تنفّس بطيء، وماء بارد من عينٍ مجهولة. كثيرون خرجوا منه أخفّ روحًا، وأنقى صدرًا، وبعضهم يؤمن أن هذا الوادي لا يُشفي بالأعشاب ولا بالدواء، بل بهدوءه… وبقربه من السماء.
—
حكايات البدو عن وادي الشفاء: الأرض التي تسمع أنينك
يحكي شيوخ القبائل أن هذا الوادي ليس مكانًا فقط، بل كائنٌ يسمع ويشعر. يقول الشيخ موسى، أحد كبار القرارشة:
> “فيه ناس بتيجي مريضة مش بس في جسمها، في قلبها… تقعد بين الجبال، تشكي لله، وتقوم كأنها خفّت، كأن الوادي أخد وجعها.”
ويروي أحد الرعاة:
> “فيه واحدة كانت بتيجي كل سنة، تقعد ساكتة، ملفوفة في بطانية، تبص للجبل قدامها. قالوا إنها بتسمع صوت ابنها اللي مات في الحرب… وفي سنة ضحكت، وقالت: (سمعته بيقولي أنا بخير… روحي اعيشي).”
أما صغار البدو فيقولون ببساطة:
> “الوادي ده طيب… لو زعلان تحكيله، ولو تعبان يريحك.”
—
جبل موسى: الجبل الذي كلّم الله فيه نبيّه
من بين جبال الأرض جميعًا، تميّز جبل موسى في جنوب سيناء بأنه الجبل الذي شرفه الله تعالى بحدث عظيم، إذ كلّم فيه نبيَّه موسى عليه السلام كلامًا مباشرًا، بلا وحيٍ ولا رسول. هو موضع التجلي والرهبة، حيث تجلّى الله للجبل فجعله دكًّا، وخرّ موسى صعقًا من عظمة الموقف.
قال الله تعالى:
> **﴿فَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا﴾
(سورة الأعراف: 143)
يصعد الناس إلى قمته في ساعات الفجر، حاملين البطاطين والمصابيح، ليشهدوا شروق الشمس من أعلى نقطة في سيناء، في لحظةٍ يختلط فيها الصمت بخشوع القلب، وكأن الجبل ما زال يحتفظ بصدى التجلي، ويهمس لمن يصعده:
“هنا ناجى الله نبيَّه… هنا وقعت الآية.”
—
شجرة العليقة: الشجرة التي لم تحترق
في ساحة دير سانت كاترين، تقف شجرة قديمة يُقال إنها العليقة المباركة التي رأى عندها موسى عليه السلام النار التي لم تحترق.
ورغم قساوة الجو وملوحة الأرض، لا تزال الشجرة تنمو وتُزهر، وكأنها محروسة بعنايةٍ إلهية.
يأتيها الزوار من كل الأديان، لا ليعبدوا الشجرة، بل ليقفوا أمامها بخشوع، لأنها تذكّرهم بأن هناك أماكن اختارها الله، وبارك فيها، وجعل فيها أثرًا لا يُمحى.
—
وادي الأرواح: طريق لا يُسلك إلا في صمت
يحكي البدو عن وادٍ صغير بين جبال “الفرش” و”سرابيط” يُعرف بـ”وادي الأرواح”.
الناس تمر فيه بصمت، دون أن تجرؤ على رفع الصوت، لأنهم يعتقدون أن الأرواح القديمة ما زالت تحرس المكان.
قيل إن رجلًا ضلّ الطريق فيه حينما غنّى بصوت مرتفع، وقيل إن راعيًا نام فيه فوجد عند الفجر آثار أقدام تحيطه رغم أنه كان وحيدًا.
رغم بساطة القصص، إلا أن كل من يدخل الوادي يشعر بأن الهواء فيه مختلف… كأنك لست وحدك.
—
الجبال الوردية: صخور تتغير ألوانها
في مناطق مثل رأس محمد ووديان سانت كاترين، هناك جبال وصخور بلون وردي يتغيّر مع الضوء، فتبدو وكأنها تتنفس.
مع الشروق تتحوّل إلى وردية، ومع الغروب تميل للذهبي، وفي بعض الليالي تظهر عليها نقوش غريبة، تختفي في اليوم التالي، أو تعود بأشكالٍ جديدة.
يسميها البدو “الجبال الحيّة”، ويؤمنون أنها تغيّر ملامحها حسب نية الزائر، فمن جاءها نقيًا، رأى فيها جمالًا لا يُوصف، ومن جاءها مستهزئًا، عاد كما أتى… لا يرى فيها إلا حجارة!
—
مغارة فرعون: كهف الماء الحار وسط البحر
قرب رأس سدر، تقع مغارة فرعون، وهي مغارة مائية في قلب الجبل، تخرج منها مياه ساخنة طوال العام، لا تنضب ولا تبرد، ولا يُعرف مصدرها بدقّة.
الناس يأتون إليها للاستشفاء، فالماء فيه كبريت وعناصر معدنية، ويُقال إنه يُعالج أمراض الجلد والروماتيزم.
لكن بعض البدو يحذرون من دخولها ليلًا، ويعتقدون أنها كانت ممرًا سريًا للهروب من ظلم فرعون، ثم تحوّلت إلى “مكان له حرمة”.
—
خاتمة: أرضٌ لا تنفد منها الحكايات
جنوب سيناء ليست مجرّد محافظة، بل قلبٌ نابض بالتاريخ، وروحٌ لا تزال تحفظ أسرار القرون.
كل وادٍ فيها له قصة، وكل جبل فيه شهقة، وكل حجر ربما جلس عليه نبي، أو بكى عنده عاشق، أو ناجى فيه إنسان ربّه.
وإن سألت شيخًا بدويًا عن تلك الأماكن، لن يعطيك خريطة، بل يبدأ حكاية… لأن جنوب سيناء لا تُزار فقط، بل تُروى