منوعات

جريمة الإسماعيلية.. عندما يتحول المحتوى الإلكتروني إلى وقود للعنف

جريمة الإسماعيلية.. عندما يتحول المحتوى الإلكتروني إلى وقود للعنف

 

بقلم د. هدى الساعاتي

 

في مشهد مؤلم هزّ وجدان المجتمع المصري، استيقظت مدينة الإسماعيلية على جريمة بشعة ارتكبها طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، حين أقدم على قتل زميله وتقطيع جثمانه بطريقة مروعة، متأثرًا بمشاهد العنف والقتل التي كان يشاهدها عبر الإنترنت والألعاب الإلكترونية. لم تكن الجريمة مجرد حادث فردي، بل إنذارًا صارخًا بخطر يتسلل بصمت إلى عقول أطفالنا عبر الشاشات، خطر ما يُعرف بعنف المحتوى الإلكتروني.

 

كشفت التحقيقات أن الطفل الجاني خطط لجريمته بعد تأثره بمشاهد دماء وقتل شاهدها في بعض المسلسلات وألعاب الفيديو. الجريمة نُفذت ببرود غريب وكأنّ الطفل فقد الإحساس بقدسية الحياة الإنسانية. اعترف خلال التحقيقات بأنه كان “يجرب ما شاهده”، وهو اعتراف يكشف حجم التأثير الذي قد يتركه المحتوى العنيف في نفوس المراهقين، خاصة عندما يغيب الوعي الأسري والرقابة الرقمية. وقد حذّرت النيابة العامة من تداول تفاصيل الحادث أو نشر المقاطع المصورة المرتبطة به، مؤكدة أن نشر مثل هذه المواد لا يضر فقط بسير العدالة، بل يرسّخ في المجتمع ثقافة التطبيع مع العنف.

 

تحوّل الإنترنت اليوم إلى عالم موازٍ يعيش فيه الأطفال والمراهقون أغلب أوقاتهم، يتفاعلون مع محتوى لا يخضع لرقابة حقيقية. وتؤكد الدراسات النفسية أن التعرض المتكرر لمشاهد الدماء والقتل يجعل الطفل أكثر عدوانية وأقل تعاطفًا مع الآخرين، وقد يدفعه لتقليد ما يشاهده دون وعي بعواقب أفعاله. ويشير خبراء علم النفس إلى أن خطورة العنف الرقمي لا تكمن في الصور أو المقاطع فحسب، بل في تطبيع العنف في الوعي الجمعي للأطفال، بحيث يصبح القتل أو الإيذاء جزءًا من الترفيه لا من الجريمة.

 

أظهرت الجريمة مدى ضعف الرقابة الأسرية وغياب الحوار داخل بعض البيوت. فالطفل اليوم يمتلك هاتفًا ذكيًا متصلًا بالعالم دون حدود، يطّلع من خلاله على محتوى لا يناسب عمره النفسي ولا نضجه العقلي. ويؤكد المتخصصون أن مسؤولية الأسرة تبدأ من متابعة ما يشاهده الأبناء، ووضع حدود زمنية لاستخدام الإنترنت، وتقديم بدائل ترفيهية وثقافية واقعية. كما أن التواصل المستمر مع الأبناء ومناقشة ما يشاهدونه هو خط الدفاع الأول ضد الانجراف وراء العنف الافتراضي. أما المدرسة فعليها دور تربوي لا يقل أهمية؛ إذ يمكنها عبر الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين رصد أي تغير في سلوك الطلاب وتوجيههم نحو التفكير النقدي والتمييز بين الواقع والخيال.

 

أكدت الجهات القضائية أن تداول مشاهد الجرائم عبر الإنترنت يُعد سلوكًا مخالفًا للقانون، لأنه يضر بالمجتمع ويشجع على تكرار الفعل. كما دعت وسائل الإعلام إلى تغطية هذه القضايا بحذر ومسؤولية بعيدًا عن الإثارة أو نشر التفاصيل الدموية التي تثير الرعب والفضول المرضي لدى الجمهور. وفي الوقت نفسه، يطالب الخبراء بتحديث التشريعات لمواكبة التطور الرقمي وتشديد الرقابة على المنصات التي تتيح للأطفال الوصول إلى محتوى عنيف أو غير ملائم، مع ضرورة تفعيل برامج الرقابة الأبوية على الهواتف والتطبيقات.

 

للوقاية من مثل هذه الكوارث، يقترح المتخصصون مجموعة من الخطوات العملية: توعية الأسر بمخاطر المحتوى العنيف وكيفية مراقبة استخدام الأطفال للإنترنت، إدراج التربية الرقمية والإعلامية ضمن المناهج الدراسية لتعليم الأطفال التفرقة بين الواقع والخيال، تفعيل الرقابة التقنية على الألعاب والمنصات الرقمية التي تحتوي على مشاهد دماء أو عنف، تقديم الدعم النفسي للأطفال والمراهقين المعرضين للمحتوى العنيف، وإيجاد مساحات آمنة للتعبير عن الغضب والانفعالات، وتنسيق الجهود بين المؤسسات الإعلامية والتعليمية والقانونية لوضع استراتيجية وطنية لمواجهة العنف الإلكتروني.

 

إن جريمة الإسماعيلية ليست مجرد مأساة عابرة، بل رسالة تحذير واضحة بأننا أمام جيل يتربى داخل عالم رقمي مفتوح بلا حواجز. وإذا لم نتعامل بجدية مع خطر المحتوى العنيف على الإنترنت، فسنشهد مزيدًا من الانهيارات الأخلاقية والنفسية في مجتمعنا. الحل يبدأ من الوعي والرقابة والتربية الرقمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى