مقالات

كبت المشاعر: حين تصبح الصلابة عبئًا نفسيًا”

كبت المشاعر: حين تصبح الصلابة عبئًا نفسيًا”

بقلم: فاطمة أبو النصير

مقدمة:
في عالمٍ يحثنا على الصمود دائمًا، ويصف التعبير عن المشاعر بالضعف أحيانًا يغفل كثيرون عن أن الصلابة ليست مطلوبة في كل شيء فنحن بشر لا آلات نملك قلوبًا تنبض ونفوسًا تتأثر، وأرواحًا تحتاج إلى التهوية بين الحين والآخر إن كبت المشاعر – سواء كانت غضبًا، توترًا، حزنًا، أو حتى حبًا – له ثمن فادح تؤكده الأبحاث العلمية والنفسية الحديثة.

أولًا: ما هو كبت المشاعر؟

كبت المشاعر هو آلية دفاعية نفسية، يعمد فيها الإنسان إلى إنكار أو تجاهل مشاعره الداخلية، إما خوفًا من الرفض، أو سعيًا للتماسك الاجتماعي، أو تجنبًا للمواجهة. وتبدأ المشكلة حين تصبح هذه الآلية عادة يومية، فيتحول الداخل إلى ساحة صراع صامت لا يُرى، لكنه يُستنزف.

ثانيًا: الدلائل العلمية على أضرار الكبت العاطفي

1. أثر جسدي مباشر:
كشفت دراسة أجرتها جامعة هارفارد (Gross & Levenson, 1997) أن كبت المشاعر يؤدي إلى ارتفاع معدل ضربات القلب، وزيادة التوتر العضلي، وارتفاع ضغط الدم، وهي مؤشرات تُظهر أن الجسد لا يصمت حتى إن سكت اللسان.

2. اضطرابات نفسية مصاحبة:
أظهرت أبحاث منشورة في Journal of Psychosomatic Research أن من يكبتون مشاعرهم هم الأكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، القلق المزمن، ونوبات الهلع نتيجة تراكم المشاعر غير المعبّر عنها داخل النفس

3. ضعف المناعة:
في دراسة أجراها الباحث James Pennebaker بجامعة تكساس، وُجد أن الأشخاص الذين كتبوا عن مشاعرهم المؤلمة بصدق على مدار أيام، أظهروا تحسنًا في وظائف المناعة، مقارنة بمن كتموا مشاعرهم. الكلمة إذًا قد تكون دواء

4. الدماغ لا ينسى المشاعر المكبوتة:
باستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، تبين أن كبت المشاعر يُفعّل مناطق التحكم في الدماغ (مثل القشرة الجبهية الأمامية)، بينما يعطّل مراكز المعالجة الانفعالية (مثل اللوزة الدماغية)، مما يؤدي إلى حالة من التوتر العقلي المزمن وفقدان التوازن العاطفي

ثالثًا: هل الصلابة الدائمة فضيلة؟

يظن البعض أن التماسك المستمر وقمع المشاعر هو دليل نضج وقوة، لكن العلم والنفس يقولان عكس ذلك
الصلابة الدائمة تُحوّل الإنسان إلى كتلة متماسكة من الخارج،
ملامحه بارده وقاسي المزاج ومتصدع من الداخل.

تقول الباحثة Brené Brown إن “الضعف ليس نقيض القوة، بل هو شرط من شروطها.” فالبكاء عند الحزن، والغضب عند الظلم، والاعتراف بالحب قبل فوات الأوان… كلها مواقف إنسانية طبيعية، والتعبير عنها ليس ضعفًا، بل وعيٌ وصدقٌ مع الذات.

نحتاج في بعض اللحظات أن نُظهر ما بداخلنا، لا لنأخذ الشفقة، بل لننقذ أنفسنا من الغرق في الداخل. إن الاعتراف بالانفعال – مهما كان نوعه – هو بداية التوازن.

رابعًا: العواقب الاجتماعية لكبت المشاعر

المشاعر التي لا يُعبَّر عنها تتحوّل إلى طاقة راكدة. فقد نجد أنفسنا ننفجر في مواقف بسيطة، أو نصمت حين يجب أن نتحدث، أو نخسر علاقاتٍ كان من الممكن إنقاذها بكلمة “أنا متضايق” أو “أنا محتاجلك”.

كبت المشاعر لا يعزلنا فقط عن أنفسنا، بل يعزلنا عن الآخرين، ويجعلنا غرباء داخل علاقاتنا.

خامسًا: كيف نواجه الكبت العاطفي؟

◾الاعتراف بالمشاعر دون خجل أو تأنيب.

◾ التعبير عنها بالكتابة، أو الحديث مع شخص آمن.

◾ التفريغ المنتظم للضغط النفسي من خلال أنشطة جسدية وفنية.

◾طلب الدعم النفسي عند الشعور المستمر بالضيق أو الانفجار الداخلي.

 

 

خاتمة:

إن الإنسان الذي يشعر، يتألم، ويعبّر، هو إنسانٌ سليم. أما من يُجبر نفسه على الصمت دائمًا، فهو يُراكم في قلبه ما لن يرحمه لاحقًا.
كبت المشاعر لا يصنع أبطالًا، بل يصنع أجسادًا مرهقة، وأرواحًا مشوشة، وعلاقات مهددة.

فلنمنح أنفسنا المساحة لنكون حقيقيين
لنغضب حين يُساء إلينا.. ولنرتبك حين نخاف ولنحب بصدق دون انتظار التوقيت المثالي.
لأن ما لا نقوله… يصرخ داخلنا.
وما نكتمه اليوم… قد يؤذينا غدًا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى